علم النفس المعرفي
يُعد علم النفس المعرفي أحد الفروع الأساسية في علم النفس الحديث، إذ يركّز على فهم العمليات الذهنية التي تساهم في إدراك الإنسان للعالم من حوله، كالتفكير، والذاكرة، والانتباه، وحل المشكلات، واتخاذ القرار، وتعلُّم اللغة. وقد برز هذا الفرع في منتصف القرن العشرين كرد فعل على السلوكية التي تجاهلت دور العمليات العقلية لصالح التركيز على السلوك القابل للملاحظة فقط.
في هذا المقال، سنناقش نشأة علم النفس المعرفي، أهم مجالاته، نظرياته، وأساليبه البحثية، بالإضافة إلى تطبيقاته في الحياة اليومية، مع الاستناد إلى مصادر علمية موثوقة.
---
أولاً: نشأة علم النفس المعرفي وتطوره التاريخي
بدأت ملامح علم النفس المعرفي بالظهور في الخمسينيات من القرن العشرين، فيما يُعرف بـ"الثورة المعرفية"، وهي فترة شهدت انتقالًا من التركيز الحصري على السلوك الظاهري إلى دراسة العمليات العقلية الداخلية. وقد ساهمت عدة تطورات علمية في مجالات الحوسبة، واللغويات، والعلوم العصبية في تمهيد الطريق لهذا التحوّل.
أحد أبرز الشخصيات التي ساهمت في هذا التحوّل هو جورج ميلر (George Miller)، الذي نشر في عام 1956 مقالته الشهيرة عن "الرقم السحري سبعة"، حيث أظهر أن الإنسان يستطيع تخزين حوالي 7 عناصر في ذاكرته قصيرة المدى. كما ساهمت أعمال نوم تشومسكي (Noam Chomsky) في دحض النظريات السلوكية حول تعلم اللغة، مشيرًا إلى وجود بنية عقلية داخلية تسهّل هذا التعلم.
---
ثانياً: المفاهيم الأساسية في علم النفس المعرفي
يرتكز علم النفس المعرفي على دراسة عدة وظائف معرفية رئيسية، من بينها:
1. الانتباه
الانتباه هو عملية اختيارية يتم من خلالها تركيز الموارد العقلية على محفز معين، وإهمال المحفزات الأخرى. يتضمن الانتباه الانتقائي، والانتباه المقسّم، والانتباه المستمر.
2. الإدراك (Perception)
يُعنى الإدراك بكيفية تفسير الدماغ للمعلومات الحسية من البيئة. ويتم من خلاله بناء صورة ذهنية عن الواقع، وهو ما يسمح للإنسان بالتفاعل مع العالم الخارجي.
3. الذاكرة
تنقسم إلى عدة أنواع:
الذاكرة الحسية (Sensory Memory)
الذاكرة قصيرة المدى (Short-Term Memory)
الذاكرة طويلة المدى (Long-Term Memory)
تشمل عمليات التخزين والاسترجاع والنسيان، وهي ضرورية للتعلم واتخاذ القرار.
4. حل المشكلات واتخاذ القرار
يتناول علم النفس المعرفي الاستراتيجيات التي يستخدمها الأفراد لحل المشكلات واتخاذ القرارات، بما في ذلك التفكير المنطقي، والخوارزميات، والاستدلال الاستقرائي والاستنتاجي.
5. اللغة
تُعد اللغة من أكثر الظواهر المعرفية تعقيدًا، وهي تشمل فهم الكلمات، وبناء الجمل، واستعمال اللغة في السياقات الاجتماعية.
---
ثالثاً: الأساليب المستخدمة في البحث المعرفي
يستخدم علماء النفس المعرفي مجموعة من الأساليب التجريبية، من أبرزها:
التجارب المخبرية: وتُعد حجر الأساس في البحث المعرفي، حيث يُطلب من المشاركين أداء مهام معرفية تحت ظروف مضبوطة.
تقنيات تصوير الدماغ مثل fMRI وEEG: تُستخدم لقياس النشاط الدماغي أثناء تأدية المهام العقلية.
محاكاة الحاسوب: لتصميم نماذج للعمليات الذهنية تحاكي عمل الدماغ البشري.
دراسات الحالة العصبية: تحليل أداء الأفراد الذين يعانون من أضرار دماغية لفهم الوظائف المعرفية.
---
رابعاً: نظريات بارزة في علم النفس المعرفي
من بين النظريات البارزة في هذا المجال:
نظرية معالجة المعلومات: ترى أن العقل يعالج المعلومات بطريقة مشابهة للحاسوب (الإدخال → المعالجة → الإخراج).
نظرية المخططات (Schemas): تفترض أن الأفراد ينظمون المعلومات في هياكل عقلية تُسمى "مخططات"، تُساعدهم في تفسير العالم.
نظرية الحمل المعرفي (Cognitive Load Theory): تركّز على كيفية تنظيم المعلومات أثناء التعلم لتقليل الحمل الزائد على الذاكرة العاملة.
---
خامساً: تطبيقات علم النفس المعرفي
تُستخدم مبادئ علم النفس المعرفي في عدة مجالات، منها:
التعليم: تصميم مناهج تراعي الفروق الفردية في الذاكرة والانتباه.
علم النفس الإكلينيكي: معالجة اضطرابات مثل الاكتئاب والقلق من خلال العلاج المعرفي السلوكي (CBT).
واجهة المستخدم وتصميم البرامج: تحسين قابلية استخدام التطبيقات بناءً على المبادئ المعرفية.
التسويق والإعلان: فهم كيف تؤثر الرسائل الإعلانية على قرارات المستهلك.
---
خاتمة
علم النفس المعرفي هو حجر الزاوية في فهم طبيعة العقل البشري، إذ يفتح الأبواب لفهم كيفية التفكير، والتذكر، والتعلم، واتخاذ القرار. إنه علم متعدد التخصصات، تتقاطع فيه المعارف من علم النفس، وعلوم الأعصاب، وعلوم الحاسوب، واللغويات. ومع تطور التكنولوجيا، يُتوقَّع أن تتعمّق معرفتنا بالعمليات المعرفية بشكل غير مسبوق، مما سيؤثر على كل مناحي الحياة الإنسانية.
---
مرجع موثوق
Eysenck, M. W., & Keane, M. T. (2015). Cognitive Psychology: A Student's Handbook (7th ed.). Psychology Press.